قصَّـــة من الغرائب

بسم الله الرحمن الرحيم
قصَّـــة من الغرائب
قال لي محدِّثي : لله ألطاف خفية . وقد بدأت القصة هكذا :
أحسست بغصة في حلقي ، وانهيار في قوتي . فقلت لعلها ” ذبحة قلبية” ، إذ شعرت أن مصدر كل ذلك قلبي . وكان السرير قريباً مني – حيث كنت أتمشى على الشرفة الطويلة – فلجأت إلى السرير ، ونمت كما هي عادتي على جنبي اليمين وبدأت بالتسبيح ( وهو تسبيح خاص هداني إليه ربي سبحانه ).
      وأحياناً في هذه الحالة ، يريني ربي سبحانه صوراً أعرف بها حالي أو درجتي في ذلك اليوم أو الوقت الذي مرَّ بي ، من حيث عبادتي أو قيامي بواجباتي، ولا سيما في الكتابة ، أو أي موقف   يقّوِّم سبحانه حالي ومواقفي . وإنما تكون الصور غالباً بشكل ومضّيٍ ، أي كومض برقة .. هذه المرة كان الأمر مختلفاً ، إذ استمرت المشاهد ، ولا أقول الصور حوالي النصف ساعة ، مصاحبة بتفكير مني وتعليل وتحليل ومناقشة :
      فكانت الصورة الأولى : رأس وحشٍ منفّر ، مما جعلني أتوجس خيفة من أن أكون قد أخطأت بشي في ذلك اليوم ، أو قصَّرت   في أمرٍ كان عليَّ أداؤه ، مع أني واثق أني في طاعته ورضاه سبحانه.. وأخذت أربط ذلك بحالة قلبي وعامة حالتي من الإرهاق والشعور بالتعب الذي ينتابني.
       أما رأس الوحش ، فكان مقدمة للتفاصيل الجميلة والجليلة التي ستليه.
      ثم بدأ المشهد ، أو الوقائع العجيبة التي لا تخطر على بال :
ظهر شعر جميل سبطٌ مرخيٌّ على كتفي فتاة صبية ، عرفت ذلك من قبعة على رأسها ترتديها عادة فتيات في سنها ، وقد أُدخل في روعي أنها في حوالي – لا أحدد عمراً – وإنما هي من الغيد ، صبية حسناء : شعرها يوحي بذلك وقبعتها . لم أر جسمها تحت الكتفين . وإنما الملفت جداً كان لونها ، وهو حالة كما تبين لي فيما بعد ، حقيقة نورانية لازوردية ، أي من الأزرق الفيروزي ، أو السماويّ الشفيف .  واشتقت لرؤية  وجهها ، وقد هدأت نفسي وأنفاسي ، حيث قلت إن ربي ابتلاني برؤية أو صورة ذلك الوحش الموحش ، وعوَّضني هذه الغادة الجميلة ، ولكن أين ذلك من حالة قلبي؟! … وشعرت بسعادة أولية ، متمنياً أرى وجهها بعد أن كان ظهرها ما زال إليَّ كأنها لاتريد الإلتفات ، وفجأة تحوَّلت إليَّ بهدوء وببطء ، فصُدمتُ حيث كان وجهها شديد القبح ، فتعوذت بالله الحليم الكريم الرحمان الرحيم ، وعاد إليَّ تساؤلي عن وضعي وحالي عند ربي في كثير من الإستغراب والعود إلى حالة قلبي … وفجأة سقط عن وجهها ما كان وجهاً مستعاراً ، يستعمله الأولاد في لعبهم ولهوهم . فإذا هي في وجه سويٍّ ينم عن عمرٍ في حوالي الثالثة عشرة أو ربما السادسة عشرة أو ما بينهما. ما زالت في نفس اللون النوراني اللازوردي . وكانت تبدو ملامحها الجميلة ، ليس بشكل دفعي ، وإنما جمال من وجهها بعد جمال .. حيث كان يُحجب الوجه بين اللحظة واللحظة ، أو الحين والحين ، نور من نفس لونها اللازوردي الشفيف . ثم أخذ يظهر جسمها كاملاً جميلاً سوّياً …
      إنما أسجّل هنا أني لهذه اللحظة ، لم أشعر – مع إعجابي الشديد بها ومع سعادتي – لم أشعر بما يشعره الرجل عادة تجاه المرأة  ، من رغبة وشوق من حيث الإشتهاء أو الجاذبية الطبيعية العادية . وإنما كان مجرد إحساس بالجمال المسعد ، الذي  فيه  دافع  قوي للشكر لله ، أو أنه يخالطه الشكر لله جلّ   جلاله . وبعد قليل أعرضت عني متمشية مشيحة بوجهها مبتعدة قليلاً ما . فانتابني شيء من الأسف والعود إلى مناقشة الأمر بالسؤال : لماذا ؟ ثم عادت مقبلة وأنستني أسفي ، واقتربت هذه المرة مني ، واقتربت ، واضعة يديها على كتفيَّ سعيدة بي وأنا سعيد بها . ثم تحولت عني وتمشت ، ثم عادت إليَّ لتضع يديها على كتفيّ مرة أخرى ،  وفجأة ارتفعت  عن  الأرض  حتى  أصبح  جسمها  في  فضاء  ما  حولي  ،  قريبة جداً مني ، تدور حواليَّ ، ومازالـــت في وضعها مثلما كانت واقفـــة على الأرض ، ثم  دخلت في جسمي وأنا غير مندهش ، دخلت، وأصبح قلبها على قلبي ، أو قلبي في قلبها . ففزعت حيث أن عزمي وعهدي الذي أنا معاهد الله سبحانه عليه ، هو أن لا يكون أحد ولا شيء في قلبي غير الله جلّ شأنه ، وأني واهب له هذا القلب من زمان . وفي قرارة وجداني أنه منه إليه سبحانه وتعالى . فاستدركت وقلت لها بعد قليل من التأمل : إنما أنا قلبي لله ، فقالت : وأنا قلبي لله .فشعرت عند ذلك أن قلبها قلبي أي أصبحا قلباً واحداً . شاهدت كل ذلك بأم عيني وبصري  وبصيرتي . ثم أحسست أن جسمي وكل كياني امتلأ منها ، بعد أن دارت أكثر ما دارت حول قلبي قبل أن يتحد القلبان ويصبحا قلباً واحداً مازلت أراه وأحسَّه نورانياً لازوردياً ، وكذلك كل أعضاء جسمي ، وكل خلية فيه ، في دماغي وأعصابي ولحمي ودمي وعظامي وعروقي وكل ذرة من ذراتي .
      وهنا تذكرت ما أفزعني ، وهو أني أدعو الله سبحانه وأسأله كل يوم أن لا يكلني لنفسي ولا لأحد أو لشيء من خلقه طرفة عين أبداً ولا أقل من ذلك ولا أكثر . فكيف بي وقد ركنت إلى هذه الحسناء النورانية وقد حلّت بكل كياني ؟! ….
      فكأنما أُدخل في روعي مقارنة ارتحت لها .مقدمتها أولاً ، أن هذه النورانية الحسناء ، إنما هي عطاء من الله تبارك وتعالى ، من فضله وجوده وكرمه ورحمته ليصلح بها قلبي ويطهره تطهيرا . وكذلك كل كياني ، بعد أن كان سبحانه قد طهّر قلبي يوماً بما كتب فيه من أسمائه الحسنى السبع المثاني التي تفضل بها عليَّ ، وأراني إياه كبيراً  بحجم قلبين أو ثلاثة من القلوب العادية ، وإنما هذه المرة ، أصلح فيه فعل السن وعاديات الزمان ، أو أنه سبحانه بناه لي هذا البناء الفذ الجديد ،الذي هو من واسع كرمه وجوده ورحمته ورأفته ، وكذلك عامة بدني وكل كياني . وثانياً أن أوقن بأن حالة هذه الفتاة الحسناء هي حالة ملكيِّة (ملائكية) ، أُدخل في روعي بخصوصها مقارنة مع الملاك الذي أرسله عزّ شأنه إلى مريم ﴿ فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا فتىً شاباً ، فأصبحت بذلك مقدسة . وأرسل لي هو سبحانه هذه الروح أو الملاك ، فتمثل لي فتاةً صبية فأصبحتُ كذلك .
اللهم لك الحمد ولك الشكر ملءُ عرشك ، ولك الحمد ولك الشكر زنة عرشك ولك الحمد ولك الشكر كما حمدت نفسك وكما شكرت نفسك وكما ينبغي لكرم وجهك .
كنت سعيداً جداً بهذا التعليل والتعليم منه سبحانه ، وشعرت بأن قلبي قد استقرَّ وضعه كأحسن ما يكون صحةً وعافية وشباباً وفتوَّة . إنما شعرت فجأة بشيء من الضيق والتساؤل عن مصيري بعد هذا كله . فوجدت نفسي أنقلب بشيء من الحزن والخشية ، إلى جانبي الأيسر . وهنا شعرت ورأيت أن لي جناحين من نفس الشكل النوراني اللازوردي . ثم غبت كلياً عن وجودي في السرير . وإذا أنا طائر بجناحيَّ هذين صُعُداً في جو السماء ، وكأن أحداً يسائلني إلى أين ، فأقول : إليك يا ألله ، قاصداً وجهك الحبيب ، وجهك الكريم .
كنت أطير بشكل منحنٍ أو مائل – غير الشكل الذي أصعدني كذلك به نورانياً ذهبياً مع ملاكيَّ إلى سدرة المنتهى – .
ثم بدون أن أشعر أو أعرف كيف وجدت نفسي محوَّلاً عن الشكل المنحي أو المائل [عن العمودي] بزاوية خمس وأربعون درجة تقريباً ، إلى شكل أفقي ، وأني طائر فوق السماء السابعة في الأفق الأعلى .
رأيت من شكلي جناحين طويلين بطول مترين أو اكثر للجناح الواحد ، وأن جسمي أطول من ضعفي ما هو الآن ، ولم أرَ من وجهي ورأسي إلا شعراً طويلاً مجعداً بشكل أنيق وجميل ، ربما كستنائي ، وإنما بدون شيب ، وأن عامة جسمي والجناحين ، بنفس الخلق النوراني اللازوردي . ثم استيقظت من هذه الحال ، وأنا شديد الإحساس أني لم أغف إغفاءَة تامة قط ، أثناء استلقائي هذا . فجلست على حافة السرير ، أراجع ما رأيت لدقائق ، سمعت معها أذان المغرب ، فقمت إلى الصلاة متفقداً أول شيء قلبي ، فإذا هو كما قلت من الصحة والعافية والفتوَّة كما ذكرت في سياق هذه الإشهادات ، وقد ذهب التعب والنصب والإرهاق إلى غير رجعة إن شاء الله الحبيب العظيم الحليم الكريم ، أكرم الأكرمين وأجود الأجودين ﴿ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾.
اللهم إني لو بقيت أشكرك إلى الأبد ساجداً ، شكراً متصلاً دون أن أرفع رأسي ما خلّدتني ، فلن أفيك واحدة فقط من جلائل نعمك المكرمة عليَّ ، ولا واحدة من لطائف رحمتك التي علمتني بها أن أدعوك وأسألك .