(1)
هكذا سلم من الجراحة
قلبي
أولاً عن رياضتي البدنية :
كنت في صباي ، ثم في عنفوان شبابي ، أكاد أتجه لاحتراف الرياضة لشدة ولعي بها ، وقد سعيت لأن أكون مدرِّساً للرياضة بإلتحاقي بالمعهد الخاص – دار المعلمين . وقد نجحت في إمتحان القبول ، إلاَّ أن قدري أخذني إلى رياضة روحية ، قادتني لأصعد في أجواء ما كنت أسمع بها ولا أعرف عنها شيئاً . وهكذا تركت النادي الرياضي الذي أنست به ، لأدخل في منهجية من الفكر الديني ، ألزمتني بقيافة خاصة من حيث اللباس ، حتى والشكل والمظهر ، يضاف إلى ذلك تقدم في السن موجب للهدوء والتأمل والوقار . كل ذلك دفعني لأن أبتاع جهازاً للرياضة لأسرتي ، وطبعاً كان لي فيه الحظ الأكبر ، لحاجتي إليه الخاصة ، – لأن المشي في الشوارع وفي المنتزهات حسب القوانين الإجتماعية عندنا – لا يليق بي وبأمثالي .
البيت وتأثيره فيمن يلازمه اكثر وقته :
بيتنا الذي في بيروت ، كأنما بني على مزاجي، من حيث توزيع غرفه وشرفاته ، وحركة الشمس حوله من شروقها إلى غروبها ، لذلك كنت أعتبره من نعم الله الدنيوية ، ذات الأهمية ، أكتب وأكتب فيه دون ملل ، بل بحماس وشعور دائم بالسعادة ولا سيما بعدما أستعرض ما أكتب كل يوم ، فأجد أفكاراً ومعاني ، فيها إبداع وفوائد عاليه ، لم أكن أعرفها في مخزون علمي ، إنما أشعر كأنما هي حقائق جديدة لم أكن مسبوقاً بها ، ولا أحد غيري ثم تبين لي صدق حدسي بكثرة من البينات .
المهم ، أني كنت على ثقة كبيرة بأن البيت الذي كنت أمـارس فيه رياضتي الروحية والبدنية ، كان مبرمجا ، كأنما سلفاً ، من جملة النعم الكبرى ، لكي أكتب راغباً وراهباً ، وشاكراً مقصراً في مواجهة كثرة نعمه ، وجوده وكرمه سبحانه .
مختصر نشاطاتي السابقة واللاحقة :
كتب الدكتور محمد بيضون في أطروحته للدكتوراه ، عن مرحلة من مراحل نشاطاتي ، منذ الإجتياح الإسرائيلي وخلاله ما يلي ، وأكتفي بعرض هذه المرحلة كنموذج عن طبيعتي النفسية والروحية التي بها أنبتني ربي جل شأنه :
الاجتياح موقف الشيخ منه :
الإجتياح الإسرائيلي عام 1982 م كان صدمة مؤلمة للجميع . خاصة أن الجيش المحتل هو جيش عنصري ، بالإضافة إلى العداء التاريخي الذي تربى عليه كلا الفريقين : المسلمين واليهود . فالجنوبيون قرآنيون يؤمنون بما في كتابهم الكريم ، ومن جملة ما فيه أن اليهود أشد أعدائهم بغضاً لهم وقسوة عليهم ، وأنهم المفسدون في الأرض ، وأنهم قتلة الأنبياء والأولياء . من هذا المنطلق قرر الجميع ، المقاومة ومن الطبيعي أن يكون رجل الدين في الطليعة . ففي الليلة الأولى للإجتياح ، يطلب البعض من الشيخ تعليمهم صلاة الشهادة . فلبى النداء ، وطلب السلاح لينضم إلى ركب المقاومين . فاعترضه البعض ، ومن بينهم والده ، فرفض الإنصياع ، وقرر النزول إلى الميدان . ومن أرض المعركة ، شاهد الشيخ هزال المواجهة ، وضعضعتها ، وكانت النتيجة أن عمَّ الإحتلال الجنوب ، وبدأ الشيخ يفكر، وهو ومن معه بالمقاومة . وكانت مقاومتهم في البدء تقتضي بتذكير المؤمنين بحرمة التعامل ، التي كان يطلقها من على المنابر . كذلك عبأ الشيخ أهالي البلدة ضد سياسة التطبيع ، التي تجلت بأوضح صورها بالعلاقـات التجارية ، فحرَّم السلع ، حتى بات الأطفال يسألون عن مصدر صناعة هذا النوع من الحلوى أو ذاك . وكانت إسرائيل سريعة في الرد على محاولات الشيخ . فأخذت تداهم بيـوت أعوانه واعتقلت العديد منهم . فما كان من الشيخ إلا أن نزل إلى ساحة القرية مهدداً العملاء ، ومندداً بهذه الأعمال الجبانة ، فاضحاً وبأسلوب قاسٍ المخططات الإسرائيلية ، معلناً مواقفه المحمدية الإيمانية . واستمر الحال على هذا المنوال :
إعتقال ، وإفراج ، إلى أن حدثت العملية الجريئة ، التي نفذها أبطال المقاومـة على طريق ” الوادي الأخضر ” المدخل الجنوبي لبلدة عربصاليم . هذه العملية التي أودت بحياة ثمانية من الضباط الإسرائيليين . مما ولَّد عند الإسرائيليين غضباً عارماً ، وعلى الفور أقدمت قواتهم على محاصرة البلدة ، متهمة أبناءها بمسؤوليتهم عن هذه العملية . وشاهد أهالي البلدة أعداداً كثيفة من جنود العدو ، بمدفعيتهم وآلياتهم الثقيلة ، سدّوا منافذ البلدة وهم يحملون مكبرات الصوت التي تدعو الأهالي للدخول إلى منازلهم ، تحت طائلة إطلاق النار على كل من يخرج من منزله ، كل ذلك في ظل زخات من الرصاص .
إعتلى الشيخ المنبر ووجه النداء بادئاً بالآية القرآنية التالية :
{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ… . سورة المائدة الآية 82 } .
وطبعاً استمع اليهود الكلام وفهموا فحواه ، ولكن قبل أن يستفيقوا من الصدمة ، كان النادي الحسيني يغص بالوافدين ، شباباً وشيوخاً ونساءً وأطفالاً ، بعضهم يسيل الدم على وجهه ، لأن اليهود كانوا يمنعونهم من الوصول إلى النادي الحسيني ، بإطلاق النار حيناً وبضربهم بأعقاب البنادق حيناً آخر ، وما يزيدهم ذلك إلا تحدياً لليهود وإصراراً على الوصول إلى ناديهم . وكم من موقف بطولي ، حدث في ذلك اليوم التاريخي لهذه البلدة البطلة المجاهدة المؤمنة ، من الرجال والنساء والصبيان وحتى الأطفال والشيوخ الطاعنين في السن .
ومما خاطب الشيخ به أهل بلدته : يا أهلـي إنكم تـنتظرون كل سنة لقاء عاشوراء ، لتقولوا : ” ليتنا كنا معك سيدي أبا عبد الله (1) لنفوز فوزا عظيما “. فهذه هي اليوم عاشوراء ، جاءت إليكم بنفسها ، وهذا جيش فيه أكثر من ألف شمر وألف يزيد ، وها هم يطوقون البلدة ويقتحمون المنازل ليعتقلوا أبطالها ويذلوا أهلها ، فلنكن جميعاً في مواجهتهم حسينيين …
وبعد التداول ، قرر الجميع وعلى رأسهم الشيخ ، القيام بمسيرة بإتجـاه الحواجز الإسرائيلية لفك الحصار ، فما كان من العدو إلاّ أن أخذ يطلق النار على المسيرة فور خروجها من النادي الحسيني ، وكان يومها أصيب سبعة مواطنين بجروح سقطوا أرضاً ، تقدم الشيخ من أحد الجنود ، فصفعه وطلب منه أن يطلق النار على صدره بدل إطلاقها نحو الأطفال والنساء . هذا الصمود البطولي والكربلائي من الشيخ والجمهور المؤمن الغاضب ، الذي بدا مصراً على المواجهة ، دفع إسرائيـل إلى فك الحصار وبذلك سجل أهالي البلدة المسلمون ، نصراً رائعاً على المعتدي المحتل ، بعد أن تعالوا فوق الخلافات الحزبية والعائلية التي كانت تتخبط بها البلدة قبل الاجتياح .
ويعتقد أن عدة أسباب تراكمت، فكان لا بد معها، من زاوية النظر الإسرائيلي من إعتقال الشيخ ، أولها أنه كان لا يكف عن مهاجمة الإحتلال علناً وعلى المنابـر، محـرماً التعامل مع الإسرائيليين بجميع وجوهه ، ثانياً أن الإسرائيليين حاولوا إحتواءه بأن قالوا إن الشيخ بكلمة واحدة يستطيع أن يطلق سراح جميع المعتقلين من البلدة ، بل ومن الجنوب كله ، ففرح بذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المقصود الإمام الحسين عليه السلام سيد شهداء كربلاء .
بعض البسطاء ، ولكن الشيخ كان أفطن من أن يقع في الفخ الإسرائيلي فرفض أية مداخلة معهم في هذا الشأن لو بكلمة . وثالثاً أنه كان يرفض إستقبالهم ، وقد قاموا بمحاولات جاهدة ليحصلوا منه على موعد وعلى لقاء . ثم كانت العمليات الجريئة التي كانت تنفذ بالقرب من البلدة، وعلى الخصوص عملية ( الوادي الأخضر ) ، ثم طريقة الشيخ في تأليب الناس على الصهاينة ، ثم المواجهة المباشرة التي قاد فيها الأهالي ضدهم ، كل ذلك أعتبر من الأسباب المباشرة وغير المباشرة التي كانت وراء إعتقاله .
حرص الشيخ على سلامة أهل البلدة :
كان الشيخ قد تواعد مع بعض المجاهدين والمجاهدات ، على القيام بعمل محدد ، وإعطاء إشارة معينة ، عند مداهمة بيته ومحاولة إعتقاله . لإستنفـار أهـل البلدة ، والحيلولة دون إختطافه ، لكنه
فكَّر طويلاً .. وطلع بنتيجة ، أنه في حال مواجهة مع العدو من قبل أهل البلدة دفاعاً عنه ، سيسقط قتلى وتنزف دماء . ومهما كانت النتائج فسيبقى العدو مصراً على إعتقاله أو إغتياله .
والإعتقال إما بسفك دماء شجاعة وطاهرة وبريئة ، وإما بدون ذلك . والشيخ حريص على الدماء الشجاعة . فليوفرها لبطولات ومواجهات أهم من هذه ، ونحن أحوج ما نكون إلى مثيلاتها .
ثم إنه كان عُرض عليه الذهاب إلى بيروت , أُرسلت إليه مرتين سيارة بإمكانها المرور به دون إشكال ولا أية ملاحظة .. إلى بيروت وكذلك مع أهل بيته . الا أنه كان يرفض في كل مرة ، ويعتبر ذلك خيانة لله ولعباده ، بعد أن كان هو يدعوهم للصمود والثبات ، وعدم تفريغ القرى من سكانها ، وهو مطلب لشد ما كان يتمناه ويحرص عليه العدو الإسرائيلي .
والنتيجة ؟ ما النتيجة في الموقف والقرار ؟
كان يقول عندما يحشر بمثل هذا السؤال : النتيجة أنني باقٍ هنا في بيتي وبلدتي ووطني ، والعدو المحتل هو الذي يجب أن يرحل .
أرسل إليه العدو الإسرائيلي من ينصحه ويخبره في نفس الوقت ، أنه إذا لم يخرج من البلدة فقد أعـدوا له – وبالحرف الواحـد – : ” فيلم مثل فيلم الشيخ راغب” – رضـوان الله عليه. فأجابهم الشيخ :” أنتم لا تبصـرون ولا اليهود يبصـرون ، وأنا لست أنا ، أنا من زمان مسـافر ( وأشار بيده نحو السماء ) ، أما ما ترونه مني ، فهو بدني ، وهذا لا يعوّل عليه ، فليأخذوه ، قتلاً .. أو اعتقالاً .. وأنا في عين الله ، وفي جواره ، ولتكن فيَّ مشيئته ، وليكن قضاؤه ، عليه توكلت وإليه أنبتُ وإليه المصير .
وكثيراً ما كان يردد هذه الآية الكريمة :
{ .. وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا . سورة الطلاق ، الآية 3 . } .
الى الشرف في المعتقل :
البلدة نائمة .. جميع من في البيت غلبهم النوم .. وإحساس بالخطر، غائم ، مبهم .. أصوات دبابات ، وحركة آليات .. تتوقف .. دقائق .. يقرع الباب .. رجل معروف من الشيخ يقول وإنما بصوت شبه مختنق ، من وراء الباب :
ـ مولانا .. ( ويرد الشيخ من الداخل )
ـ نعم .. لحظة ( وضع العمامة على رأسه ) ، وفتح الباب ، فإذا الزبانية .. وخطف خطفاً .. إقتيد الشيخ بعد إعتقاله إلى ثكنة مرجعيون . ثم لم يعرف مكانه طيلة أكثر من شهر . إلى أن جيء به إلى ( مبنى الريجي ) (1) . وتبين فيما بعد ، أنه في فترة إخفائه ، كان في زنزانة إنفراد ، في ثكنة بلدة كفريا البقاعية ، في لبنان .
هذه الزنزانة كان يقال عنها أن الداخل فيها مفقود والخارج مولود .
في هذه الزنزانة الرهيبة ، بقي مدة أربعة عشر يوماً لقي فيها ألواناً مستحدثة من التعذيب النفسي ، حتى أصبحت مشهورة فيما بعد ، لما كان يتم فيها من تحطيم المعتقل نفسياً وجسدياً بإسماعه أصواتاً وحركات في لياليها الكالحة المظلمة وقد استنتج فيما بعد أن هذه الأصوات كانتمسجلة بطريقة تقنية ، كل ذلك إضافة إلى مبدأ السجن وما يرافقه على الطريقة الإسرائيلية من مشاعر تقتضي أكثر من كتاب على حد قول الشيخ . وكثيراً ما سمع الشيخ مُصَرِحاً ، أنه لولا عناية الله وحده ومشيئته وحده ، وحفظه وتدبيره وحده ، لما خرج حياً ولا سالماً ، لأن نوايا العدو الإسرائيلي كانت أكثر فظاعة وأشد خطراً .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مبنى الريجي في بلدة كفرمان كان إحتله العدو وحوله الى معتقل .
من هذه الزنزانة الملعونة ، نقل ثانية إلى ثكنة مرجعيون ، ودائماً مصفداً معصوبَ العينين ، ثم من مرجعيون إلى مبنى الريجي في كفررمان ، حيث احتجز ما يقارب العشرين يوماً جالساً على كرسي ليلاً ونهاراً غير مميز بين الليل والنهار بسبب ( الكيس ) الذي كان يزال بطريقة خبيثة ، بحيث يرغم السجين على نزعه بسرعة في مواجهة الشمس ، مما تسبب بالعمى أو ما يقارب منه لكثير من المعتقلين . وفي الريجي أصيب الشيخ بحالة إنهيارٍ تام ، وغياب عن الوعي شبه يومي .
وعن التحقيق معه ، قال الشيخ أن ضباط المخابرات طلبوا منه تزويدهـم بأسماء الشبكـة ( الإرهابية ) التي يمولها، وكانوا يهددون الشيخ بنسف منزله على عياله وأطفاله ، ولكن الشيخ صاحب المواقف المعهودة والمشهورة رد بقوله : ” إن الله ربي وربهم وهو أولى بهم مني ” بعدها نقل الشيخ إلى ( معتقل أنصار ) لينضم إلى قافلة الأحرار الذين نذروا أنفسهم للدين والحرية والكرامة .
ثم بعد أن ألغى العدو معتقل أنصار ، وأفرج عن المعتقلين عامة نقل الشيخ مع كوكبة ، إنتقاها العدو إمعاناً في تعذيبها ، إلى عتليت داخل الأرض المحتلة ، حيث أفرج عنه مع مجموعة من الأبطال ، في عملية تبادل للأسرى عبر الشقيقة سوريا .
موجز عن طعامي وشرابي:
كنت أعتقد أن كل أنواع الأطعمة والأشربة مفيدة ، ما دامت مما أحلّه الله جل شأنه ثم إني كنت أطالع مجلة “طبيبك” وكانت تخصّص في كلٍ من أعدادها نوعاً من الطعام – حبوب أو خضـار .. وفي كل مرة تورد إحصائية علمية عن المواد التي فيها ، وكنت أبتسم شاكراً الله على نعمه في كل مرة أستعرض فيها الفوائد الجمة في كل نوع ، ما أكثر النعم وما أكثر الفوائد . لذلك لم أعتمد نوعاً معيناً في طعامي ، وإنما كنت أعتمد بنسبة عالية البرمجة التي إختصّني بها رب العالمين . أي أنه هو النافع أصلاً ، فكنت أتناول الماء مثلاً لأشرب ، أقول هذا ماء مبارك ، كما في القرآن
الكريم : فإذاً هو نافع ، ثم أسحب على بقية الأطعمة والأشربة نفس المعاني معتمداًً غالباً – إذا لم يكن دائماً – التعاليم المتعلقة بهذا الشأن { .. وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ… سورة الأعراف الآية 31 } , ومن الاحاديث الشريفة : ” إن الله لا يحب كل نُوَمَة أُكَلة(1) ,” ولا تجعلوا بطونكم مقابر للحيوانات ” , “كل بثلث معدتك واترك ثلثاً للماء وثلثاً للهواء” وغير هذا من الآيات و الأحاديث الشريفة التربوية .
علاقتي العاطفية بأسرتي:
لا بد أن تكون هذه العلاقة عبر الأخذ بالتعاليم الإلـٰهية و السنن الرشيدة ، علاقة محبة يحكمها غالباً التوفيق والرعاية من الله سبحانه . على محورية أن الحـب الأعظم هو لله سبحانه ، وأما ما يفيض على جوانب القلب من هذا الحب فضعه حيث تشاء . و من الآيات التي كنت وما زلت آنس بها قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ . سورة الروم الآية 21 }، وقوله تعالى : { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ… . سورة التغابن الآية 15 }، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ … . سورة المنافقون الآية 9 } والحقيقة إن التربية بشكل عام وخاصة تربية الأولاد فيها أجر كبير عند الله وفيها مسؤولية . لهذا ندم إبراهيم بن أدهم وهو في أحسن مراحل عرفانه وصوفيته ، على أنه لم يتزوج …
على أن نتائج التربية ، ليست محكومة بقدرة المربي وإلمامه بقواعدها وقوانينها ، وإنما هي علاقة متداخلة طرداً وعكساً بين الآباء والأبناء ، بين الأبوّة والبنوّة ، وقد تتلمس بعض أسرارها في أعلى مراتبها عند نوح وإبراهيم اللذين هما من أبرز رسل الله تعالى وأنبيائه .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أي كثير النوم كثير الأكل .
فنوح عليه السلام ينادي ابنه الذي يعاني من الغرق ، بألطف الكلام وأشد الحرص عليه وعلى نجاته من الموت وخسران الدنيا والآخرة ، فيستكبر ، ويعصي أباه وربه : { … وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ . قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ . سورة هود الآيات (42 – 43 ) } .
وفي المقابل نبي الله إبراهيم عليه السلام ، يقول لابنه وهو بعد فتىً أول إنفتاحه على الحياة وبهجتها : { … قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ . فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ . وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . سورة الصافات الآيات ( 102 – 105 ) } .
وكذلك التعامل مع الزوجة ، فهو كذلك ليس محكوماًً بقدرة الزوج أحياناً ولا بثقافته وقوة شخصيته ، إنما هي كذلك علاقة متداخلة طرداً وعكساً بين الطرفين وأعلى مرجع نستفيد منه أسرار هذه العلاقة ، كذلك هو كتاب الله وتعاليمه قال الله جل شأنه : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ . وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ . سورة التحريم الآيات ( 10 – 12 ) } . وهذه الآيات البينات تنتطبق على الزوجات وعلى البنات في مجالات التربية .
الواقعة التي أكرمني بها ربـي :
كل هذا الذي كتبته في الصفحات تحت عنوان ….. قلبي ، الذي في المفهوم المتداول ،كان يقتضي الأسئلة التي طرحتها وأجبت عليها لحصر الأسباب التي أدت الى الحالة التي سأذكرها عن قلبي ، والتي كانت تقتضي بعد عرض الأسباب أو حصرها ، فحصاً من قبل أطباء مختصين وتحاليل وأدوية ممهدة للجراحة ، ثم مستشفى .
القصة بدأت على الشرفة الواسعة ، حيث كنت أمشي ككل يوم تقريباً على جهاز الرياضة الذي ذكرته . عصراً ، قبيل الغروب بساعتين تقريباً .
في الجهاز جرس ينبِّه إذا تجاوز القلب عدد النبضات الطبيعية مع الجهد المسموح به ، دقّ الجرس . وأحسست بمثل غصّة في الحنجرة التي تحت العنق ، وكنت كثيراً ما سمعت من مصابين بالقلب أو من مهتمين بأمره ، أن هذه الغصة تعني ذبحة أو بداية ذبحة ، كما يسمونها في عالم الطب. وزادت ضغطاً عند الحلقوم وعلى صدري ، فنزلت عن الجهاز في حالة فزع . وأخذت أتمشى مسترجعاً أنفاسي ومفكراً في الامر ….
لا بدَّ كان من تذكر عهود كأنما بيني وبين ربي جل جلاله، موجزها يبدأ بقوله تعالى :{ مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ … . سورة الآحزاب الآية 4 }. هذه الآية فهمتها كما هو بالإجماع في التفاسير. وكتبت عنها وشرحتها مرارا على المنبر وفي المجالس في معرض الكلام عن أن الحب الأعظم إنما ينبغي أن يكون لله تعالى جل شأنه ، وأنه ليس للإنسان أكثر من قلب واحد ، فهو إما أن يكون لله وإما أن يكون لغير الله ، ولا تجوز فيه المشاركة ، بين الله جل وعز وبين غير الله . فأن تجعل مع الله أحداً غيره من خلقه فهذا شرك بالله وهو قال سبحانه : { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء … . سورة النساء الآيات 48 و 116 } يعني قد يغفر لك كل شيء إلا أن تشرك به .{ … إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ . سورة لقمان الآية 13 }وقد جاء في الحديث : ( إن الله لا ينظر إلى وجوهكمُ وإنما ينظر إلى قلوبكم ….) وفي تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ … . سورة آل عمران الآية 5} ، أي لا يطَّـلـعنَّ عليك فيرى في قلبك سواه فيمقتك . وفي تأويل قوله تعالى :
{ إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم … . سورة التوبة الآية 111 }، أي يكرمهم على لسان الحقيقة وعلى لسان المعاملة ، إشترى منهم الأجساد لمواضع وقوع المحبة في قلوبهم فأحياهم بالوصلة ( أي الوصول ) . وغير ذلك من الآيات وتأويلها والأحاديث .
كل هذا دار في ذاكرتي ، وغيره ، مستذكراً أني كنت على يقين من أن الله تعالى سيحفظني سليماً معافى في جميع جوارحي وعامة بدني وخاصة في قلبي لأني وهبته له سبحانه ، منه إليه ، دون شرك ظاهر ولا خفي وأنه طفح بحبه سبحانه ، وأني أحب من أحب من رسله وأوليائه وأهلي وإخواني وعامة الناس بما يطفح من قلبي على جوانبه ، لكلٍ على قدره ومكانته عند الله جل جلاله .
وكنت أنقل أفكاري هذه وتطبيقاتها خطابة وكتابة ، وفي محاوراتي ومداخلاتي ، مبشِراً ، بأنه من يعقد مثل هذه العهود مع الله جلّت عظمته يحفظه الله برعايته وكلايته ولا تؤثر فيه الأسباب ولا تهوله مخوفات الموارد لأنه يكون في وقاية الحق وقبضته .
فماذا جرى لي اليوم ، وخاصة في قلبي ؟! وأين ما اعتقدته بفضل من الله تبارك وتعالى وأين ما بلَّغته وعملته؟!
ما زالت الغُصة أسفل عنقي ، عند الحلقوم ، وأحسست أني مرهق ، لم أعد أقوى على المشي والتفكير. وكانت غرفة النوم بابها مفتوح على الشرفة فسعيت إليها واستلقيت على السرير.
عادتي في بدء النوم ، أن أستلقي على ظهري ، متوقعاً بعض الصور أو المناظر الجميلة ، أو المشاهد المنبِّهة ، أو المحذَّرة …. ففيما هو إيجابي مسعد ، أعتبره رسالة رضى ، فأغيب في إغفاءَة قرير العين مرتاح الضمير.
وما كان منها سلبياً موحشاً – وقليلاً ما يكون – آخذ بإسترجاع أعمالي أو أقوالي فيما مضى من يومي أو بعض يومي ، وذلك ما يسمى بالنقد الذاتي تحت عنوان ” حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا” فإذا أتممت واجب المحاسبة والجَرح والتعديل .. أنقلب الى الجنب اليمين ، كما في الحالة الأُولى التي توحي برضاه سبحانه ، كذلك في الحالة الثانية التي توحي بعدم رضاه أو بعتابه ، له الحمد وله الشكر ، وله العتبى حتى يرضى . وإنه لا حول ولا قوة إلا به جل شأنه .
هذا اليوم ، وكالعادة، وأنا مستلقٍ على ظهري ، وأنا أكثر رجاءً في توقعي ، وتحت عنوان : { هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ… . سورة الحشر الآية 24 } سيريني ما يطلعني على حقيقة ما ألمّ بي . فرأيت ما أفزعني : رأس وحش كاسر، وبشع ، فتعوذت بالله ، وانقلبت على جنبي اليمين ، مستهجناً ، وكأنما متفكراً عاتباً . ( كانت الصور التي أتحدث عنها ، لحظية ، أي أنها أكثر ما تدوم بضع ثوانٍ وأحياناً برقيه ، أي كلمع برقة . ) وامَّحت صورة رأس الوحش ، وفجأة بدأت الواقعة التاريخية بالنسبة إليَّ : صورة صبيّة أو صبي ، إختلط عليَّ الأمر ، لأنه بدا نورانياً ، بقبعة على الرأس يبدو من تحتها شعر سبط ولا أجمل ، والقبعـة بحجم وإستدارة القمر وهو بدر ، وتبادر إلى ذهني بقوة ، أن الله تعالى لن يخيَّب صدقي ولا أقوالي وأعمالي ولا جهادي في سبيله ، على أن الفضل فضله ، وإذا أعطى عبداً فبغير إستحقاق لأنه ما كان خيراً فمنه وإليه ، وما كان شراً فمن عباده. وهو سبحانه قال هذا حتى لرسوله محمَّد (ص) : { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً … . سورة النساء الآية 78 }.
ولكن ثقتي به سبحانه ، كانت أقوى وأعلى وأشد تمكيناً من أن أعتقد أنه عز شأنه قد تخلى عني ، ولماذا وهو أسرع الحاسبين وأرحم الراحمين ، { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ . ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ . فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ . سورة البروج الآيات (14 – 16) }. هذا إضافة الى ما لديَّ من شواهد وبيّنات عن علوِّ مكانتي لديه ودرجتي عنده ومنها ما أسـررته ومنها ما أعلنته ، ومما أسررته كان هذه القصة ، الواقعة ، التي مضى عليها حوالي عشر سنوات مخبوءَة في مفكرة ، ثم أذن ربي سبحانه بنشرها ، وها أنا أفعل …
وأتابع ، أقول ، ما دمت أنا كذلك عند ربي ، ومن أوليائه الصالحين ، فما جرى لي بلاء ، أو إبتلاء ، وهذا الذي أمامي ، هو قطعاً ملاك من ملائكة الرحمة ، و من ملائكة الرحمان ، لأنه كان نورانياً بلون اللازورد السماوي الأزرق الشفيف ، وإنما وهذا عجب ، منذ رأيتـه ، لم أر وجهه ، بل أراه يتمشى أمامي لمسافة قصيرة دائراً لي ظهره ، ثم إلتفت إليَّ فجأة .. يا ويلي .. ما أقبح وجهه ، وتعوذت بالله من جديد ، وأقبل نحوي ، ثم توقف على بعد أذرع ، وقبل أن يتاح لي وقت للتفكير، رفع يده التي من نور وخلع عن وجهه قناعاً ( مثل الذي يلبسونه في عيد البربارة) ، فإذا الوجه لم أر مثله بين البشر جمالاً محبباً ، وإشراقة طيبة هدأت أعصابي وأنفاسي، ثم أقبل عليَّ واضعاً يديه على كتفيَّ ، كأنما لزيادة في الطمأنينة ، ولإشعاري أكثر بالروحانية والأريحية ، ثم إرتفع في الهواء قريباً مني ، يدور حولي دورتين أو ثلاثاً ، ثم دخل في جسمي . نزل عليّ نزولاً ، حاذى قلبه قلبي .. دخل قلبه في قلبي .. فتنبهت لأمر هو عندي خطير ، إذ أن قلبي مرصود لله جل شأنه ، ولم أرض يوماً أن يكون فيه شيء لغير الله فقلت : وإنما أنا قلبي لله … قال : وأنا قلبي لله ..
وهكذا أصبح القلبان قلباً واحداً هو لله جل شأنه .. ومنه و إليه .
أحسست أنه لم يبق فيَّ عضو ولا جارحة من جوارحي إلا وقد إختلط أو إمتزج في كل ذلك ، هذا الملاك ، هذا النوراني اللازوردي الشفيف ، ففي دماغي ولحمي ودمي وعظمي ، وكل خلية من خلاياي أو ذرة من ذراتي إختلط هذا النور المحبب الجميل .
الله أكبر الله أكبر… المؤذن يؤذن ، حان وقت صلاة الغروب . قمت من السرير، أول ما خطر ببالي – وقد كدت أنسى ما كان ألمَّ بي – أن أتلمس أسفل عنقي ، حيث أفزعتني الغُصة ، فلم أجد لها أثراً ، ثم وضعت يدي على صدري أتفحص قلبي ، بعد ذلك الخفقان في صدري ، وشدة التعب والإرهاق الذي إنتابني ، فلم أجد من ذلك شيئاً – وقد شعرت أني غير ما كنت عليه ، حتى قبل ابتلائي ، أصبحت وقد عاد إليَّ شبابي وفتوتي . وتوضأت وصليت … وصليت شاكراً لله فضله ورحمته ونعمته هذه العجيبة ؟ التي توَّجت سابق فضله وكثير نعمه التي لا تحصى .
وقد مرت عشر سنوات تقريباً ، أراني فيها سبحانه الأعجب والأسمى وما لم أكن أتوقعه أو أحلم فيه من عظيم عطاءاته ، وجوده ، وكرمه بنفس روح الشباب والهمة والفتوه التي ذكرت فله الحمد وله الشكر أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً وعلى كل حال .